ما دخلت السياسة شيئا إلا أفسدته هذه المقولة المنسوبة للإمام محمد عبده اختبرها المصريون جيدا وتأكدوا من صحتها خلال العامين الماضيين
, ليس فقط في الدين ولكن داخل الأسرة الواحدة أثرت السياسة لدينا علي كل شيء, حتي علي حياتنا الزوجية والأسرية.. العلاقة بين الأب والأبن تغيرت, كما لو كان الابن صبأ بتأييده الشعب, والأب مازال علي دين أجداده بتأييد المعزول, كما في أفلام الهجرة وفجر الاسلام.
حالة انقسام اجتماعي واضحة, أثرت علي الجميع, شتت أسرا وقطعت علاقات زوجية, في تصرفات وصور غير سوية وغير متوقعة.
بالسياسة, طفح علي مجتمعنا كل ما هو ليس متوقعا.
بعض الزوجات لم ينلن من الأزمة غير يمين الطلاق, كل واحد منا يعرف علي الأقل بيتا واحدا أعلن فيه الأبناء العصيان علي الآباء بدعوي شرعية مزعومة.. تبادل اتهامات وصلت إلي درجة التخوين والكراهية.
حالة من الكراهية غير المسبوقة رصدها الكاتب الكبير فاروق جويدة في أحد مقالاته قائلا: وصل بنا الحال إلي أن يطرد الأب ابنه ويطرد الزوج زوجته ويقتل الأشقاء بعضهم بعضا.. هل هي خطايا الساسة؟ هل هي صراعات الفكر المريض؟ هل هي الأمية أم الجهل أم الفقر والجوع؟.. من كان يصدق أن تسيل كل هذه الدماء في صراعات سياسية بغيضة.. من كان يصدق أن تشهد شوارعنا وبيوتنا ومؤسساتنا كل هذا التخريب.. من كان يصدق أن ينقسم المصريون الي أشلاء متناثرة في الشوارع والميادين.. ومن لديه القدرة أن يجمع كل هذه الأشلاء ويصنع منها كيانا جديدا تدب فيه روح الرحمة والتواصل والمحبة؟ أعرف أصدقاء انقطعت كل وسائل الود بينهم بسبب الخلافات السياسية, وأعرف أشقاء حملوا السلاح علي بعضهم بسبب انقسامات السياسة.. هذا إخواني وهذا سلفي, وهذا مواطن عادي لم يعرف شيئا غير أنه مصري. أعرف أزواجا انفصلوا بعد عشرات السنين التي عاشوها معا.. من يصدق أن رجلا في سبعينيات العمر يطلق زوجته وهي في نفس عمره بسبب مشاجرة سياسية أمام الأبناء انتهت بالانفصال؟!
ربما ابتعد الحب كثيرا عن مجتمعنا وحلت الكراهية الكريهة محله, ولم يعد أمامنا إلا التعامل معها والتعايش معها والعيش بها.
والسؤال: هل نقدر علي ذلك؟ وهل هو ممكن؟ وهل تجد دعوات المصالحة الوطنية صدي لها في الشارع_ من الجانبين؟ نحن نكره بعضنا البعض.. هذه حقيقة مؤكدة.. إلي أين ستأخذنا الكراهية وماذا ستفعل بنا؟ وإلي أين ستصل بنا؟
قبل أن نبحث عن وصفة للتعايش مع الكراهية لابد أن نتفق أولا أنه لا مجتمع علي كوكب الأرض أو في المجرات المجاورة يعيش في محبة ومودة بلا كراهية.
الأكيد أن الكراهية شعور طبيعي من صفات البشر, حتي وإن كانت صفة سلبية أو مذمومة لكننا بشر نحب ونكره.. إنها الكيمياء البشرية التي تجعلنا نحب شخصا بعينه ونرتاح لشخص ثان, ولا نطيق ثالث, بدون أسباب حتي قبل أن يأت بفعل يؤذينا..
ربما كان المجتمع الوحيد الذي لا توجد به الكراهية والذي يقوم فرحان من نومه_ كما في أغنية الأطفال الشهيرة_ هو مجتمع البط. بالتأكيد لا يوجد من بيننا من يقوم من نومه فرحان..
المهم ان نتعايش برغم الكراهية, ليس شرطا أن نتصالح ولكن أن نجد طريقا للتعايش جنبا إلي جنب حتي ونحن كارهون..
لابد أن نتفق أيضا علي أن مشاعر الكراهية في مجتمعنا لم تظهر بعد فض اعتصام رابعة أو حتي بعد عزل مرسي, ولكننا كنا نمارس الكره المجاني قبل ذلك بكثير..
منذ سنوات والخبراء يحذرون من العنف المخزون داخل نفوسنا, لم يحذرونا من الكراهية طالما أنها لا تتحول إلي عنف هدفه النيل من الآخر والتنكيل به, بالفم واليد والمولوتوف وما تيسر.. من هولاء الخبراء د.أحمد زايد أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة الذي تحدث عن العنف المخزون في المجتمع فقال: عاش المجتمع المصري علي ضفاف النيل لقرون عديدة, تشهد له الدهور بالاستقرار والاستمرار, وعاش فيه الناس حياة هادئة يرتبطون بالأرض التي فيها معاشهم, وبالعائلة التي يجدون فيها المأوي والملاذ, وبثقافتهم الشعبية التي يحتفلون من خلالها ويبتهجون ويكسرون رتابة الحياة وطول انتظار الفيضان والثمار, وهم في كل الأحوال يسعون إلي العيش في حياة تغلفها البهجة التي لا تنقطع إلا بموت الأحبة والأعزاء, كما يغلفها الصبر والإيمان الشديد بالله الذي هو مصدر كل خير. ولقد صارت الحياة بالمصريين علي هذا النحو عبر آلاف السنين, يعاركونها وتعاركهم, وتطول نظراتهم إلي النهر الذي هو شريان حياتهم, ويلقون فيه أجسادهم للتطهر وللتخلص من الرذيلة, فهو الشاهد علي أفراحهم وأحزانهم, وتطول نظراتهم إلي السماء.. يتأملون فيكتشفون العلم بالله والعلم بالدنيا, ويتسامحون فيما بينهم من أجل استمرار الحياة, وهم في كل الأحوال يكدحون ويعملون ويقدمون للدنيا نماذج تاريخية للعطاء والانجاز في ميادين شتي. ولقد كانت هذه الروح هي مصدر قوة هذا المجتمع واستمرار عطائه, بل مصدر قدرته علي المقاومة والجلد في وجه الغاصبين.
ولكننا عندما نتأمل الحياة من حولنا, في مجتمعنا المعاصر, قد يصيبنا بعض القلق علي استمرارية هذه الروح, وذلك من فرط العنف الذي أصاب هذه الحياة, فثمة معدلات للعنف الظاهر في كل مجالات الحياة, ورغم ارتفاعها إلا أنها لاتزال عند مستويات منخفضة مقارنة بما يحدث في دول أخري من العالم.. فما مصدر القلق إذن؟ إن هذا القلق قد ينتج عما نسميه بالعنف المخزون وليس العنف الظاهر. فثمة مؤشرات قوية تدل علي وجود طاقة عنف مخزونة أو كامنة.
الخبراء عندما يتحدثون عن سمات مجتمع فهم لا يقصدون فصيلا اجتماعيا أو سياسيا معينا, إنما يضعون نصب أعينهم صالح المجتمعات علي المدي الطويل.
رغبتنا في عدم التصالح مع أي من المنتمين إلي التيارات الإسلامية مشروعة, في نظر الكثيرين, لكن في الوقت نفسه يقول الخبراء أن هناك فارقا بين الرغبة في حساب الجاني وبين استبعاد فصيل إنساني كامل وسلبه حقه في الحياة.
يقولون إن قدرة مجتمع علي الاستبعاد مثلها مثل الثقوب السوداء في المجموعة الشمسية, تتحول لتأكل كل الأجسام دون تفرقة, ثم في النهاية تدور لتأكل نفسها.
الحل يرونه في التوازن الاجتماعي, حيث التعايش حتي ولو دون محبة.
لكن هل يمكن التعايش دون حب, ودون ثقة في الآخر؟ أم أن أي نوع من أنواع التعايش يتطلب شيئا من القدرة علي قبول الآخر, وبعض سمات التقارب بين المتعايشين؟
علم النفس علي لسان د.فكري العتر أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة يقول إن التعايش ممكن حتي مع غير المتحابين, بشرط وضع معايير واضحة لا يجوز الخروج عنها.. يقصد التزامات.. تتم وفقها معادلة التعايش كبديل عن الكراهية السوداء العنيفة.
قبل الوصول إلي التعايش الاجتماعي لابد أن يحدث التعايش النفسي, وهي مرحلة ليست سهلة, فكما أن الاختلاف في العادات والطباع بين البشر واختلاف الظروف والأقدار التي يعيشها كل شخص والتي تطبع في داخله طريقة تفكير خاصة, كل هذا يؤدي إلي مشكلة في التعايش النفسي بين البشر.
غياب التعايش أوالقدرة عليه, تؤدي بدورها إلي التوتر المستمر, إما نتيجة الاختلافات الطبيعة بين طبائع البشر وطريقتهم في التفكير, وإما نتيجة فترات الاضطراب الاجتماعي التي قد تنشأ عنها ملامح عنف في المجتمعات التي لا تستطيع التعايش.
يقول خبراء النفس إن التعايش قرار ليس عاطفة. فالعاطفة هي حب أو كره, بينما التعايش رغبة وطرق علمية. التعايش مع الآخر يبدأ أولا بالتعايش النفسي السليم مع الذات. والتعايش أو الرغبة فيه ليست دعوة من طرف واحد.. بل رغبة مجتمع.
وتبدأ عمليات التعايش بتغيير أسلوب التفكير, التي تساعد علي النظر لبعض الأمور بمنظور إيجابي, خصوصا في الصراعات السياسية, إذ إن النظر للصراع السياسي بمنظور إيجابي يعني التيقن من أنه لولا هذا الصراع لما استطاع المجتمع اكتشاف أسلوب عمل وتفكير فصيل سياسي معين وقت الأزمة, وفي مرحلة الاختبار.
ومن خصائص التعايش النفسي ألا يبالغ الإنسان في طموحه, أي أنه ليصل إلي مرحلة ما من التعايش يجب أن يكون واقعيا, يعني أن يعرف ما الذي يمكن أن يحدث وما الذي لا يمكن حدوثه, إضافة إلي الذي يستحيل حدوثه, وعدم الاعتقاد في ضرورة الوصول إلي الكمال الاجتماعي. فالرغبة في الوصول إلي الكمال المطلق تؤدي إلي ضغوط نفسية كبيرة, بينما لا تصل المجتمعات ولا الأفراد إلي هذه الدرجة من الكمال.
بعد تحقيق التعايش النفسي مع من نكرهه نصل بالضرورة إلي التعايش السياسي الذي يتحقق معه الوئام المجتمعي والتعايش السلمي السياسي, ويقول الخبراء إن التعايش الاجتماعي بين مجتمع واحد أصعب من التعايش السلمي بين الدول في بعض الأحيان. لكن يمكن رغم ذلك اتخاذ طرق وأساليب التعايش السياسي بين الدول نموذجا لمعرفة أحد اشكال التعايش الصعبة, خصوصا وأن التعايش السلمي عندما بدأ في الظهور علي الساحة السياسية, كان الغرض منه تبريد العلاقات الملتهبة بين أقوي قوتين علي الأرض وقتها.. الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
والتعايش في المجتمع, وارد ألا يقوم علي المشاعر إنما علي المصالح, يعني غياب المشاعر لا ينفي غياب المصالح. فالتوافق حول المصالح أو الاهداف ضرورات مشتركة لحياة المجتمعات.
نعود مرة أخري لما كتبه الكاتب الكبير فاروق جويدة مطالبا بإعادة مصر التي أحببناها, كما كانت.. قال متسائلا: من يضئ قناديل الحب والرحمة في شوارع مصر مرة أخري؟ من يعيد التواصل إلي القلوب التي تسربت إليها أشباح الكراهية؟.. من يعيد فرحة الجيران مع بعضهم ويعيد النفوس إلي صفائها القديم؟.. من يزرع أشجار المحبة وسط صحراء أيامنا التي اتسعت وتحولت إلي علاقات إنسانية مريضة؟
حالة انقسام اجتماعي واضحة, أثرت علي الجميع, شتت أسرا وقطعت علاقات زوجية, في تصرفات وصور غير سوية وغير متوقعة.
بالسياسة, طفح علي مجتمعنا كل ما هو ليس متوقعا.
بعض الزوجات لم ينلن من الأزمة غير يمين الطلاق, كل واحد منا يعرف علي الأقل بيتا واحدا أعلن فيه الأبناء العصيان علي الآباء بدعوي شرعية مزعومة.. تبادل اتهامات وصلت إلي درجة التخوين والكراهية.
حالة من الكراهية غير المسبوقة رصدها الكاتب الكبير فاروق جويدة في أحد مقالاته قائلا: وصل بنا الحال إلي أن يطرد الأب ابنه ويطرد الزوج زوجته ويقتل الأشقاء بعضهم بعضا.. هل هي خطايا الساسة؟ هل هي صراعات الفكر المريض؟ هل هي الأمية أم الجهل أم الفقر والجوع؟.. من كان يصدق أن تسيل كل هذه الدماء في صراعات سياسية بغيضة.. من كان يصدق أن تشهد شوارعنا وبيوتنا ومؤسساتنا كل هذا التخريب.. من كان يصدق أن ينقسم المصريون الي أشلاء متناثرة في الشوارع والميادين.. ومن لديه القدرة أن يجمع كل هذه الأشلاء ويصنع منها كيانا جديدا تدب فيه روح الرحمة والتواصل والمحبة؟ أعرف أصدقاء انقطعت كل وسائل الود بينهم بسبب الخلافات السياسية, وأعرف أشقاء حملوا السلاح علي بعضهم بسبب انقسامات السياسة.. هذا إخواني وهذا سلفي, وهذا مواطن عادي لم يعرف شيئا غير أنه مصري. أعرف أزواجا انفصلوا بعد عشرات السنين التي عاشوها معا.. من يصدق أن رجلا في سبعينيات العمر يطلق زوجته وهي في نفس عمره بسبب مشاجرة سياسية أمام الأبناء انتهت بالانفصال؟!
ربما ابتعد الحب كثيرا عن مجتمعنا وحلت الكراهية الكريهة محله, ولم يعد أمامنا إلا التعامل معها والتعايش معها والعيش بها.
والسؤال: هل نقدر علي ذلك؟ وهل هو ممكن؟ وهل تجد دعوات المصالحة الوطنية صدي لها في الشارع_ من الجانبين؟ نحن نكره بعضنا البعض.. هذه حقيقة مؤكدة.. إلي أين ستأخذنا الكراهية وماذا ستفعل بنا؟ وإلي أين ستصل بنا؟
قبل أن نبحث عن وصفة للتعايش مع الكراهية لابد أن نتفق أولا أنه لا مجتمع علي كوكب الأرض أو في المجرات المجاورة يعيش في محبة ومودة بلا كراهية.
الأكيد أن الكراهية شعور طبيعي من صفات البشر, حتي وإن كانت صفة سلبية أو مذمومة لكننا بشر نحب ونكره.. إنها الكيمياء البشرية التي تجعلنا نحب شخصا بعينه ونرتاح لشخص ثان, ولا نطيق ثالث, بدون أسباب حتي قبل أن يأت بفعل يؤذينا..
ربما كان المجتمع الوحيد الذي لا توجد به الكراهية والذي يقوم فرحان من نومه_ كما في أغنية الأطفال الشهيرة_ هو مجتمع البط. بالتأكيد لا يوجد من بيننا من يقوم من نومه فرحان..
المهم ان نتعايش برغم الكراهية, ليس شرطا أن نتصالح ولكن أن نجد طريقا للتعايش جنبا إلي جنب حتي ونحن كارهون..
لابد أن نتفق أيضا علي أن مشاعر الكراهية في مجتمعنا لم تظهر بعد فض اعتصام رابعة أو حتي بعد عزل مرسي, ولكننا كنا نمارس الكره المجاني قبل ذلك بكثير..
منذ سنوات والخبراء يحذرون من العنف المخزون داخل نفوسنا, لم يحذرونا من الكراهية طالما أنها لا تتحول إلي عنف هدفه النيل من الآخر والتنكيل به, بالفم واليد والمولوتوف وما تيسر.. من هولاء الخبراء د.أحمد زايد أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة الذي تحدث عن العنف المخزون في المجتمع فقال: عاش المجتمع المصري علي ضفاف النيل لقرون عديدة, تشهد له الدهور بالاستقرار والاستمرار, وعاش فيه الناس حياة هادئة يرتبطون بالأرض التي فيها معاشهم, وبالعائلة التي يجدون فيها المأوي والملاذ, وبثقافتهم الشعبية التي يحتفلون من خلالها ويبتهجون ويكسرون رتابة الحياة وطول انتظار الفيضان والثمار, وهم في كل الأحوال يسعون إلي العيش في حياة تغلفها البهجة التي لا تنقطع إلا بموت الأحبة والأعزاء, كما يغلفها الصبر والإيمان الشديد بالله الذي هو مصدر كل خير. ولقد صارت الحياة بالمصريين علي هذا النحو عبر آلاف السنين, يعاركونها وتعاركهم, وتطول نظراتهم إلي النهر الذي هو شريان حياتهم, ويلقون فيه أجسادهم للتطهر وللتخلص من الرذيلة, فهو الشاهد علي أفراحهم وأحزانهم, وتطول نظراتهم إلي السماء.. يتأملون فيكتشفون العلم بالله والعلم بالدنيا, ويتسامحون فيما بينهم من أجل استمرار الحياة, وهم في كل الأحوال يكدحون ويعملون ويقدمون للدنيا نماذج تاريخية للعطاء والانجاز في ميادين شتي. ولقد كانت هذه الروح هي مصدر قوة هذا المجتمع واستمرار عطائه, بل مصدر قدرته علي المقاومة والجلد في وجه الغاصبين.
ولكننا عندما نتأمل الحياة من حولنا, في مجتمعنا المعاصر, قد يصيبنا بعض القلق علي استمرارية هذه الروح, وذلك من فرط العنف الذي أصاب هذه الحياة, فثمة معدلات للعنف الظاهر في كل مجالات الحياة, ورغم ارتفاعها إلا أنها لاتزال عند مستويات منخفضة مقارنة بما يحدث في دول أخري من العالم.. فما مصدر القلق إذن؟ إن هذا القلق قد ينتج عما نسميه بالعنف المخزون وليس العنف الظاهر. فثمة مؤشرات قوية تدل علي وجود طاقة عنف مخزونة أو كامنة.
الخبراء عندما يتحدثون عن سمات مجتمع فهم لا يقصدون فصيلا اجتماعيا أو سياسيا معينا, إنما يضعون نصب أعينهم صالح المجتمعات علي المدي الطويل.
رغبتنا في عدم التصالح مع أي من المنتمين إلي التيارات الإسلامية مشروعة, في نظر الكثيرين, لكن في الوقت نفسه يقول الخبراء أن هناك فارقا بين الرغبة في حساب الجاني وبين استبعاد فصيل إنساني كامل وسلبه حقه في الحياة.
يقولون إن قدرة مجتمع علي الاستبعاد مثلها مثل الثقوب السوداء في المجموعة الشمسية, تتحول لتأكل كل الأجسام دون تفرقة, ثم في النهاية تدور لتأكل نفسها.
الحل يرونه في التوازن الاجتماعي, حيث التعايش حتي ولو دون محبة.
لكن هل يمكن التعايش دون حب, ودون ثقة في الآخر؟ أم أن أي نوع من أنواع التعايش يتطلب شيئا من القدرة علي قبول الآخر, وبعض سمات التقارب بين المتعايشين؟
علم النفس علي لسان د.فكري العتر أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة يقول إن التعايش ممكن حتي مع غير المتحابين, بشرط وضع معايير واضحة لا يجوز الخروج عنها.. يقصد التزامات.. تتم وفقها معادلة التعايش كبديل عن الكراهية السوداء العنيفة.
قبل الوصول إلي التعايش الاجتماعي لابد أن يحدث التعايش النفسي, وهي مرحلة ليست سهلة, فكما أن الاختلاف في العادات والطباع بين البشر واختلاف الظروف والأقدار التي يعيشها كل شخص والتي تطبع في داخله طريقة تفكير خاصة, كل هذا يؤدي إلي مشكلة في التعايش النفسي بين البشر.
غياب التعايش أوالقدرة عليه, تؤدي بدورها إلي التوتر المستمر, إما نتيجة الاختلافات الطبيعة بين طبائع البشر وطريقتهم في التفكير, وإما نتيجة فترات الاضطراب الاجتماعي التي قد تنشأ عنها ملامح عنف في المجتمعات التي لا تستطيع التعايش.
يقول خبراء النفس إن التعايش قرار ليس عاطفة. فالعاطفة هي حب أو كره, بينما التعايش رغبة وطرق علمية. التعايش مع الآخر يبدأ أولا بالتعايش النفسي السليم مع الذات. والتعايش أو الرغبة فيه ليست دعوة من طرف واحد.. بل رغبة مجتمع.
وتبدأ عمليات التعايش بتغيير أسلوب التفكير, التي تساعد علي النظر لبعض الأمور بمنظور إيجابي, خصوصا في الصراعات السياسية, إذ إن النظر للصراع السياسي بمنظور إيجابي يعني التيقن من أنه لولا هذا الصراع لما استطاع المجتمع اكتشاف أسلوب عمل وتفكير فصيل سياسي معين وقت الأزمة, وفي مرحلة الاختبار.
ومن خصائص التعايش النفسي ألا يبالغ الإنسان في طموحه, أي أنه ليصل إلي مرحلة ما من التعايش يجب أن يكون واقعيا, يعني أن يعرف ما الذي يمكن أن يحدث وما الذي لا يمكن حدوثه, إضافة إلي الذي يستحيل حدوثه, وعدم الاعتقاد في ضرورة الوصول إلي الكمال الاجتماعي. فالرغبة في الوصول إلي الكمال المطلق تؤدي إلي ضغوط نفسية كبيرة, بينما لا تصل المجتمعات ولا الأفراد إلي هذه الدرجة من الكمال.
بعد تحقيق التعايش النفسي مع من نكرهه نصل بالضرورة إلي التعايش السياسي الذي يتحقق معه الوئام المجتمعي والتعايش السلمي السياسي, ويقول الخبراء إن التعايش الاجتماعي بين مجتمع واحد أصعب من التعايش السلمي بين الدول في بعض الأحيان. لكن يمكن رغم ذلك اتخاذ طرق وأساليب التعايش السياسي بين الدول نموذجا لمعرفة أحد اشكال التعايش الصعبة, خصوصا وأن التعايش السلمي عندما بدأ في الظهور علي الساحة السياسية, كان الغرض منه تبريد العلاقات الملتهبة بين أقوي قوتين علي الأرض وقتها.. الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
والتعايش في المجتمع, وارد ألا يقوم علي المشاعر إنما علي المصالح, يعني غياب المشاعر لا ينفي غياب المصالح. فالتوافق حول المصالح أو الاهداف ضرورات مشتركة لحياة المجتمعات.
نعود مرة أخري لما كتبه الكاتب الكبير فاروق جويدة مطالبا بإعادة مصر التي أحببناها, كما كانت.. قال متسائلا: من يضئ قناديل الحب والرحمة في شوارع مصر مرة أخري؟ من يعيد التواصل إلي القلوب التي تسربت إليها أشباح الكراهية؟.. من يعيد فرحة الجيران مع بعضهم ويعيد النفوس إلي صفائها القديم؟.. من يزرع أشجار المحبة وسط صحراء أيامنا التي اتسعت وتحولت إلي علاقات إنسانية مريضة؟
المصدر الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.