بريد الجمعة يكتبه - أحمد البرى:
تستوقفني رسائل بريد الجمعة بكل ما تحمله من هموم ومآس, واستفيد من تجارب أصحابها الكثير من العبر والعظات, وها أنا أكتب اليك بحكايتي عسي أن أجد لديك ما يخفف بعض ما أعانيه من متاعب وآلام, حيث انني صيدلانية اقترب من سن الثلاثين.وقد قضيت نصف عمري في بلد عربي بصحبة أسرتي وعشنا طوال هذه السنوات منغلقين علي انفسنا بفرمان من أبي الذي رفض اختلاطنا بالآخرين, ولم تغادر أمي المنزل مطلقا, أما أنا وشقيقتاي فلقد اقتصرت حياتنا علي الذهاب الي المدارس ثم العودة الي المنزل الذي تعيش أسرتي فيه ولا يتعامل معنا أحد, وحتي الجيران حولنا لم يسمح لنا بمجرد الحديث معهم.. ورضينا بهذه الحياة وتأقلمنا معها.
وعندما حان موعد التحاقي بالمرحلة الثانوية قرر أبي العودة الي مصر لكي التحق بالصف الأول الثانوي منذ بداية العام الدراسي, وركزت في دراستي وتفوقت وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير أهلني للالتحاق بكلية الصيدلة, وخلال هذه الفترة تحدث أبي مع أمي عن انه لم يستطع التأقلم مع الحياة في مصر, وزادت عصبيته بدرجة كبيرة وأصبح دائم الشجار والخلاف مع المحيطين به, فقرر فجأة العودة إلي البلد العربي نفسه بمفرده رافضا اصطحابنا معه واقتصر وجوده في حياتنا علي زيارات متباعدة, وتولت أمي رعايتنا, أما هو فلم يفكر الا في نفسه, ولم يعبأ بإحساسنا بغيابه وهو علي قيد الحياة, ولا بمتطلباتنا واحتياجاتنا المادية والنفسية مثل كل الأبناء, ووصل به الأمر الي حد افتعال المشكلات كلما شعر بأن والدتي ستطلب منه نقودا لتغطية نفقات المعيشة العادية فتارة يبادرها بقوله انه فصل من عمله, وتارة اخري يقول إنه مدين وليس معه ما يرسله الينا, وعلينا ان نصبر الي ان تتحسن الظروف, ومرت خمس سنوات علي هذه الحال حتي تخرجت في كليتي, واذا به يمتنع تماما عن ارسال أي مصاريف الينا وكأنه يقول عليك ان تتحملي انت المسئولية!
ولما كنت أتمتع والحمد لله بجمال الشكل والروح بشهادة من حولي فقد تقدم لي الكثيرون, ولكن أبي رفضهم واحدا بعد الآخر بحجة أن هذا غير مناسب وذاك غير جاد, أما من يطلب محادثته هاتفيا فإنه يختفي بعد المكالمة ولا نجد له أثرا ولا ندري ماذا قال له!
وبعد شهور عملت صيدلانية في شركة أدوية, وتقدم لي ضابط شرطة توسمت فيه حسن الخلق وطيبة القلب, أو هكذا بدا لي, وتصورت انه الشاب المناسب لي, وكرر والدي معه ما فعله مع السابقين ولكنه تمسك بي, وصمد في مواجهة أبي فزادني موقفه حبا له وإصرارا علي الارتباط به, واستقرت حالتي النفسية واقمنا حفل خطبة بسيطا ثم عقد القران, وعند تجهيز عفش الزوجية فهمت ان ابي كان يريد عريسا جاهزا ماديا ولا يكلفه شيئا, فلقد عرفت ذلك حينما بذلت معه جهدا مضنيا لكي يرسل لي مبلغا لشراء احتياجاتي اللازمة للزواج.. وبصعوبة بالغة اعددت الأشياء الضرورية وركزت هدفي علي نجاح حياتي الجديدة والقيت وراء ظهري كل ما قاسيته من متاعب.
وما هي الا ايام معدودة حتي صدمت بعصبية زوجي حيث بدأنا حياتنا معا بالصوت العالي والتذمر لأتفه الأسباب, وعرفت انه يحكي لوالدته كل شيء عنا.. من الطعام الذي أقوم بطهيه, حتي ملابسي في غرفة النوم, الي جانب شكه الدائم في تصرفاتي, فإذا فقد نقودا من محفظته يتهمني بسرقتها, واذا قمت للصلاة في الليل أو أمسكت بالمصحف لقراءة بعض الآيات القرآنية يقول انني بارعة في تمثيل التدين والبراءة والحياء الذي لم يعد له وجود هذا الزمن من وجهة نظره, وزاد علي ذلك ان عايرني بمعاملة أبي لنا وانني فعلا لا استحق الا هذه المعاملة..
ومضت الأيام بطيئة ثقيلة علي هذا النحو, باستثناء فترات قليلة أجده هادئا لكنه سرعان ما يعود الي عصبيته. وكثيرا ما طلب مني أن ارتدي ملابس ضيقة وطرحة تظهر من شعري أكثر مما تخفي حتي أجاري العصر.. وبعد اسبوعين فقط من الزفاف اصطحبني الي اطباء النساء خوفا من عدم الانجاب, ثم طلب ما هو اغرب من ذلك, وهو أن أعيش مع والدتي, ويذهب هو للاقامة مع اسرته, علي ان نلتقي في نهاية الاسبوع بشقتنا التي تقع في الدور العاشر بعمارة ليس فيها مصعد وذلك من أجل ان ندخر بعض المال.
وبعد ثلاثة أشهر حملت فلم يكترث لحملي, وهو الذي كان يسألني عنه منذ اليوم الثاني للزواج, ومع تزايد الضغوط النفسية, تعرضت لمتاعب شديدة فقدت علي أثرها جنيني وهيهات ان يلين له جانب, اذ استمر في غلظته وتعنته وصار مستحيلا ان استمر معه فلجأت الي دار الافتاء لمعرفة رأي الشرع فيما أنا فيه, وجاءتني الفتوي بجواز طلب الطلاق لأن الحياة بمثل هذه المنغصات من الصعب ان تستقيم, أو تعرف الي النجاح طريقا, فالاية الكريمة تقول وعاشروهن بالمعروف وحياتي معه تخلو من المعاملة الحسنة وهي محكوم عليها بالفشل إن عاجلا أو اجلا.
وبناء عليه جرت مفاوضات عديدة بيننا انتهت الي تنازلي عن كل شيء, وانفصلنا بعد ستة أشهر فقط واعتبرت هذا ابتلاء من الله لكنني لم اضع في حساباتي ابدا هذا المجتمع الظالم الذي ينظر الي المطلقة نظرة دونية ويعتبرها درجة ثانية ليس لها حقوق, وعليها ان ترضي بأي وضع, وتوافق علي أي شخص دون طلبات أو مواصفات, ولا مانع ان تكون زوجة ثانية لأي رجل حتي لو كان فارق السن بينهما كبيرا.
وتجاهلت كل من يتحدثون بهذا الفكر السطحي وانشغلت بحفظ القرآن وحضور الندوات الدينية واقتربت من سيدات كثيرات رشحنني لأكون زوجة لأبنائهن, ولكن ما أن تعلم الواحدة منهن انني مطلقة حتي تتراجع الي الخلف بضع خطوات وكأنني مصابة بمرض معد, أو تقدم لي التعزية كأن عزيزا لدي فارق الحياة!
وتعرفت علي طبيب من أعيان الصعيد وجدته رائعا خلقا وخلقة, ولم يسبق له الزواج, وعرف كل شئ عني ورضي به, وعقدنا القران واستعددت للزفاف, فاذا به يشكو من آلام حادة, وذهبت معه إلي طبيب متخصص في أمراض الذكورة وبعد فحصه قال لنا: إنه لن يمكنه الدخول بي إلا بعد اجراء عملية جراحية له.
كما أنه في الغالب لن يستطيع الانجاب.. فلم أمانع أن اقف الي جانبه مهما تكن حالته, لكنه رفض وتم الطلاق, وقد أعطاني حقوقي كاملة وطلب مني أن اكتم سره حرصا علي سمعته في محيط أهله ومعارفه.. وهكذا نلت ورقة الطلاق الثانية في غضون أشهر قليلة, وكأن العيب في, وليس فيمن يرتبطون بي.
واذا حدثني أحد عن الزواج ويجد تهاونا مني في شروط الزواج يغير رأيه ويذهب بلا رجعة. وهناك من يستغل احتياجي لتكوين أسرة, ويحدثني عن الزواج ثم اكتشف أنه يريد اللهو!
إنني لم أعد أثق بأي شخص, واني أسألك: إلي متي ستعاني المرأة المطلقة الأمرين في حياتها؟.. فالرجل المطلق يختار ويتزوج كما يشاء, اما المرأة المطلقة فتعيش دائما بين قوسين.. فأين المجتمع من القرآن الكريم, وما أوصي به بالنسبة للنساء, وما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا.
إن الأيام تمر ثقيلة ولا يخفف وطأتها سوي ركعتي صلاة بالليل, وبكائي بين يدي الرحمن, وقراءتي القرآن وتدبر آياته, ويقيني ان الغمة لأبد أنها ستنقشع حينما يأذن سبحانه وتعالي.
>> ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
بالفعل يا سيدتي ما عانيته في حياتك من سوء معاملة زوجك, ثم طلاقك وعدم ارتباطك بزوج مناسب لك حتي الآن, هو نوع من الابتلاءات الكثيرة التي يختبر الله بها عباده, والتي هي إحدي سنن الحياة حيث يقول تعالي في كتابه الكريم لقد خلقنا الإنسان في كبد, ومن الطبيعي أن يحزن المرء لما قد يصيبه من ابتلاء, لكن ينبغي عليه ألا يجعله أزمة تسيطر عليه, وتشل حركته وتفكيره, وأن يسمو فوق متاعبه, وهو علي يقين بأن الله سوف يعوضه خيرا.
وأتذكر ما قاله بعض السلف الصالح, عن إنه اذا أراد الله بعبد خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان قدر حاله, حتي اذا هداه, أهله لأشرف مراتب الدنيا, وهي عبوديته لله وحده, ولأعلي ثواب الآخرة, وهو الفوز بجنته, فالخير كامن في المكروه, ولا يحمد علي مكروه سوي الله عز وجل, فلا تيأسي, واستمري في منهجك القويم بالتمسك بتعاليم الدين, ولا تلقي بالا لمن حولك, فنظرة البعض الي المطلقة هي في الحقيقة نظرة قاصرة, إذ ما أكثر الرجال الذين تزوجوا من مطلقات, وكونوا أسرا ناجحة, والمرأة المطلقة لا تختلف عن الرجل المطلق, فكلاهما استحالت عشرته مع شريك حياته, فراح يبحث عن جسر النجاة مع شريك آخر يتوافق معه, ويكملان معا مشوار الحياة, ومهما يطل الزمن فسوف يجد كل واحد نصفه الآخر بالصبر والعزيمة والرضا بما قسمه الله.
وانك بإيمانك القوي وعزيمتك التي لا تلين تستطيعين تحقيق كل أمانيك وأحلامك في غد أكثر إشراقا, فأنت واحدة ممن قال عنهم بروس بارثون هؤلاء الذين كانت لديهم الجرأة الكافية لأن يؤمنوا بأنهم يمتلكون بداخلهم شيئا خارقا يفوق ظروفهم.. هم فقط من استطاعوا أن يحققوا أشياء مدهشة فعلا.. فاستمري علي النهج الذي اخترته وسوف يأتيك نصيبك العادل في الحياة حين يأذن الله سبحانه وتعالي.
ولعل أباك يستوعب الدرس, ويعرف أن كنوز الدنيا كلها لا تساوي ما يفعله معكم, من الجفاء والبعد, وعدم الاهتمام, ولو أنه راعي الله فيكم ما أحس بما فيه من ضعف وضنك بالرغم من أنه يعمل بالبلد العربي منذ سنوات طويلة, فالقناعة كنز لا يفني, وما أوتي من مال فلن يقنع به, ولن يهنأ له بال لأنه جعله غايته في الدنيا, وبئس هذه الغاية, فالمال وسيلة للمعيشة ومواجهة شدائد الحياة, فليرض بما قسمه الله له, وعليه أن يعود الي رشده, وأن يجمع شمل الأسرة التي تفككت بسبب نظرته المادية القاصرة, فرعايته لك ولشقيقتيك ووالدتك يجب أن تكون الغاية الكبري التي يضعها نصب عينيه, وينسي ما عداها من غايات قبل فوات الأوان, أسأل الله له الهداية, ولك التوفيق والسداد, وهو وحده المستعان.
المصدر الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.