بريد الجمعة يكتبه احمد البري
وقد ذكرتني حكايتها بقصة أخري أشد قسوة وكنت أنوي منذ فترة ليست بالقليلة أن أقصها عليك عسي أن أجد لديك حلا لمأساتها, ولكن دفعتني الاحوال المتردية التي كان البلد يمر بها الي أن أؤجل كتابتها الي حين استقرار الأمور بعض الشيء, وها أنا أرويها لك, وهي تخص إحدي صديقاتي وأكتبها بالنيابة عنها, حيث أنها تعيش في حالة نفسية وصحية سيئة, وتعاني القهر والظلم والذل بعد أن كان لها ذات يوم شأن كبير.. انها سيدة في الخمسين من عمرها تنتمي لأسرة متوسطة وقد درست فن الباليه وتفوقت فيه, وعملت معيدة في المعهد الذي كانت تدرس فيه, وكونت فرقة فنية جابت بها معظم بلاد العالم, ولاقي فنها الراقي وأداؤها الرائع الإعجاب في الأوساط الثقافية.. وفي هذه الأثناء أحبها شاب في مثل سنها, وكان يعمل بالسعودية في مجال المبيعات, فتزوجا وسافرت معه, وتخلت عن عملها ونزلت علي رغبته في ارتداء الحجاب والتفرغ لرعاية شئون المنزل والأسرة وأقبلت علي حياتها الجديدة بحب وأمل وسعادة ثم اكتشفت بعد فترة وجيزة أن زوجها من النوع المبذر ولا يقدر علي تحمل المسئولية وحاولت أن تثنيه عن الإسراف المبالغ فيه, من أجل تدبير بعض المدخرات لشراء شقة وتأثيث منزل في مصر, حيث لم يكن هناك مكان يسكنون فيه عندما يعودون الي مصر في الاجازات فاتبع معها اسلوب التسويف ومرت سنوات طويلة انجبا خلالها أربع بنات ولم يستقر في عمل محدد, إذ كان دائم التنقل من وظيفة إلي أخري, وفوجئت به يبلغها بتراكم ديون كثيرة عليه ويقترح عليها ان تعود الي مصر مع البنات, وعندما تتحسن الظروف سوف يعود بهن مرة أخري.. فسكتت وبالفعل جاء معهن وأجر لهن شقة مفروشة, وقدم لبناته في مدرسة لغات قريبة من سكنهن, والحق البنتين الكبيرتين بالنظام الأمريكي, وقد عارضته زوجته نظرا للتكاليف الكبيرة التي تتطلبها هذه الدراسة, لكنه أصر علي رأيه وبعد أيام تركهن وسافر من جديد علي وعد بأن يرسل المصروفات الشهرية للأسرة بانتظام, ولم يلتزم بوعده فكانت الشهور تمر تباعا ولا يبعث اليهن بأي أموال, وعندما تتصل به حتي ولو من باب الاطمئنان عليه يتحجج بأن أحواله ليست علي ما يرام, وتحملت الأم المسكينة مسئولية رعاية البنات وحدها.. ولك أن تتخيل سيدة تعيش هذه الظروف كيف تسدد مبلغ ثلاث آلاف جنيه ايجارا شهريا لشقة مفروشة, وأكثر من ثلاثين ألف جنيه مصروفات دراسية.. لقد بذلت محاولات مضنية لكي يرسل اليها ما يسدد ديونها, وبعد عدة اتصالات قال لها اعتبروني ميتا.. فانهارت باكية وعرف الجيران بحكايتها فجمعوا لها مبلغا من المال لدفع الايجار المتراكم عليها وساعدوها علي الانتقال الي شقة عادية في منطقة أخري وبإيجار أقل كثيرا من الايجار المفروش, وبعون الله التحقت بعمل لا بأس به, لكن عائده لا يكفي احتياجات خمسة أشخاص.
وقد وجدتها أمامي ذابلة بعد كل ما أصابها من تدهور صحي ونفسي, واصيبت بالسكر, ومما تسبب في زيادة الأوضاع سوءا أن المدرسة حجزت أوراق البنات, ولم تسمح لهن بسحبها والتقدم إلي مدارس حكومية, وتم حرمان الابنة الكبري من دخول الجامعة, ومكثت الفتيات الأربع في المنزل خلال العام الماضي بلا دراسة.. وها هو العام الجديد يوشك أن يبدأ ولا أمل في انفراج الأزمة.
أما المفاجأة الجديدة فهي ان هذا الأب الحجري قد تزوج من فتاة سعودية وأنجب منها بنتا.. ولما لجأت الي شقيقته الوحيدة لكي تطلعها علي ما يفعله اخوها, وجدتها في حالة صعبة هي الأخري فلديها خمسة أبناء ولا تربطها به أي علاقة ولا تستطيع أن تقدم أي مساعدة لهن, وقد توفي والداهما.. وأما صديقتي فلها أخ وأخت ووالدتها طاعنة في السن ومريضة.. أي أن كل الأبواب مغلقة أمامها, وهي تسكن الآن مع بناتها في شقة بلا أثاث إلا بعض المراتب والكراسي, ودخلها لا يكفي ثمن المتطلبات الضرورية, وليس أمامها سبيل لإعادة بناتها الي التعليم بعد ان فقدن السنة الماضية, ويواجهن مصيرا مجهولا.
اننا طرقنا كل الأبواب وحاولنا رفع دعوي في المحكمة للمطالبة بحقوق البنات من أبيهن الذي تجرد من كل مشاعر الأبوة والانسانية ولكن حتي لو حصلت صديقتي علي حكم ضده فكيف سيتم تنفيذه وهو خارج البلاد.. كما أن كل المحاولات معه باءت بالفشل ولم يثنه عن موقفه ما علمه بأن زوجته سوف يتم ايداعها السجن إذا لم تسدد الكمبيالات التي حررتها علي نفسها للدائنين, وكان تعليقه من أغرب ما يمكن أن يصدر عن أب إذ قال لها اهربي أنت والبنات من المنطقة!! أرأيت أبا عديم الرحمة والانسانية.. أبا بلا ضمير.. أب ميت القلب كهذا الأب.
إنني أرجو أن تتمكن يا سيدي من مساعدة هذه السيدة بالحاق بناتها بالتعليم العام الدراسي الذي يبدأ بعد أيام, وأن تساعدوها علي ان تحيا حياة كريمة وأن تجد حلا مع زوجها, وفي انتظار الخطوة المقبلة التي تنتشل فيها أسرة تجرد عائلها من كل المشاعر الانسانية, وتركها في مهب الريح, ولا حول ولا قوة الا بالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أي نوع من الرجال أولئك الذين يتخلون عن فلذات أكبادهم ويتركونهم يصارعون الحياة بلا سند ولا معين, وكيف تطاوعهم قلوبهم أن يلقوا بهم في غياهب الهلاك في الوقت الذي يعيشون فيه في رغد.. انهم لا يعملون حسابا لتقلبات الدهر, ولا ليوم يلتقون فيه رب العالمين, بل ويتناسون أن الله قد يعجل لهم الحساب في الدنيا, فلا يهنأ لهم بال, ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون, ولا يدركون إلا بعد فوات الآوان فداحة أخطائهم وبشاعة جرائمهم من أجل سعادة زائفة صورها لهم خيالهم المريض.
لقد ظن زوج صديقتك أن زواجه بفتاة من البلد العربي الذي يعمل به سيجلب له الغني ويمنحه السعادة, وسيأتي له بالولد بعد أن انجبت زوجته الأولي أربع بنات, وهذا هو السبب الذي جعله يطلب منها العودة الي مصر حتي لا تتبين أمره الي ان ينفذ ما يريده, لكنه تغافل عن أن ما اقدم عليه بالزواج الجديد لن يغير ما قضي به الله عز وجل, فلقد انجبت زوجته الثانية فتاة ايضا, وربما تتخلي عنه بعد أن تستنفد أغراضها منه, ولا تفسير لتصرفاته هذه سوي أنه يعاني حالة تخبط شديدة وانانية مفرطة جعلته لا يفكر إلا في نفسه.
إن ما إرتكبه في حق بناته وزوجته قد يمر بلا عقاب الهي فترة من الزمن ولكن في النهاية, سوف تصيبه الحسرة, ويلم به الندم, فليته يدرك خطأه, ويعيد مد جسور المودة مع بناته وزوجته, ويكفيه أنه تزوج ممن هيأ له خياله المريض أنها ستكون مصدر سعادته دون أن ترتكب أم بناته ذنبا ولا جريمة في حقه, ولم تتوان عن تلبية طلباته والامتثال لأوامره, وكانت دائما مطيعة له منذ أن تخلت عن عملها والتزمت المنزل تحقيقا لارادته, فإذا به بعد سنين طويلة يتخلي عنها وعن بناته, ويتركهن في مهب الريح حتي أصبح مستقبلهن مهددا بالضياع بعد عجزهن عن دفع المصروفات المدرسية, وعدم قدرتهن علي مواجهة متطلبات الحياة.
وعلينا دائما التسليم بإرادة الله وقضائه, فما تعانيه صديقتك هو نوع من الابتلاء, حيث قال تعالي, لتبلون في أموالكم وأنفسكم, وبين الله كيف يمكننا التغلب علي الشدائد بالإيمان بقدر الله, وبالصبر والاحتساب عنده عز وجل لنخرج من أزمتنا أكثر قوة, وأصلب عودا وأكثر ارتباطا وايمانا بالله اعمالا لحكمته وسنته في الابتلاء.
وصبر هذه السيدة علي ماهي فيه يتمثل في العمل والجهاد لتغيير واصلاح ما يمكن اصلاحه كسوء الحال, وشظف العيش وتسلط الزوج, وهي بالفعل تعمل وتبذل قصاري جهدها لتوفير مستلزمات البيت واحتياجات بناتها قدر استطاعتها, وقد وعد الله امثالها بالفرج بعد الضيق, ويروي البخاري ومسلم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم انه قال ما اعطي أحد خيرا أوسع من الصبر.
ولا يعني ذلك أن تتقاعس صديقتك عن طلب حقها العادل في نفقتها هي وبناتها, وليكن ذلك عن طريق محكمة الأسرة, وعندما تحصل علي حكم بها يمكنها مخاطبة السفارة المصرية في البلد الذي يعمل فيه زوجها لإستدعائه والزامه بما يحكم به القضاء مادام أنه وصل الي هذه الدرجة من اللا انسانية ولينتظر حسابه العسير يوم يلقي الله سبحانه وتعالي.
واما عن موقف بناتها الدراسي فإنني استصرخ الدكتور محمود أبو النصر وزير التربية والتعليم راجيا منه أن يبحث مشكلتهن, ويوافق علي الحاقهن بالتعليم العام, وانني علي يقين من أنه سيقدم يد العون والمساعدة لهن حتي يجتزن هذه المحنة, كما أن أهل الخير لن يتوانوا عن نجدتهن من الديون التي تكبل هذه السيدة الصابرة وليدبر الله أمرا كان مفعولا.
المصدر الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.